فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والعيد مشتقّ من العَوْد، وهو اسم على زنة فعل، فجعلت واوه ياء لوقوعها إثر كسرة لازمة.
وجمعوه على أعياد بالياء على خلاف القياس، لأنّ قياس الجمع أنّه يردّ الأشياء إلى أصولها، فقياس، جمعه أعواد لكنَّهم جمعوه على أعياد، وصغّروه على عُييد، تفرقة بينه وبين جمع عُودٍ وتصغيره.
وقوله: {لأوّلنا} بدل من الضمير في قوله: {لنا} بدلَ بعض من كلّ، وعطف {وآخرنا} عليه يصيّر الجميع في قوة البدل المطابق.
وقد أظهر لام الجرّ في البدل، وشأن البدل أن لا يظهر فيه العامل الذي عمل في المبدل منه لأنّ كون البدل تابعًا للمبدل منه في الإعراب مناف لذكر العامل الذي عمل في المتبوع، ولهذا قال النحاة: إنّ البدل على نية تكرار العامل، أي العامل منوي غير مصرّح به.
وقد ذكر الزمخشري في «المفصّل» أنّ عامل البدل قد يصرّح به، وجعل ذلك دليلًا على أنّه منوي في الغالب ولم يقيّد ذلك بنوع من العوامل، ومثّله بقوله تعالى: {لجعلنا لمنْ يكفر بالرحمان لبيُوتهم سُقفًا من فضّة} [الزخرف: 33]، وبقوله في سورة الأعراف (75) {قال الملأ الذين استكبروا... للذين استضعفوا لمَنْ آمن منهم} وقال في الكشاف في هذه الآية {لأوّلنا وآخرنا} بدل من {لَنَا} بتكرير العامل.
وجوّز البدل أيضًا في آية الزخرف ثم قال: ويجوز أن يكون اللاّمان بمنزلة اللاّمين في قولك: وهبت له ثوبًا لقميصه.
يريد أن تكون اللام الأولى متعلّقة بـ {تكون} والثانية متعلّقة بـ {عيدا}.
وقد استقريْتُ ما بلغت إليه من موارد استعماله فتحصّل عندي أنّ العامل الأصيل من فعل وشبهه لا يتكرّر مع البدل، وأمّا العامل التكميلي لعامل غيره وذلك حرف الجرّ خاصّة فهو الذي ورد تكريره في آيات من القرآن من قوله تعالى: {قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم} في سورة الأعراف (75)، وآية سورة الزخرف، وقوله: {ومن النخل من طلعها قنوان دانية} [الأنعام: 99].
ذلك لأنّ حرف الجرّ مكمّل لعمل الفعل الذي يتعلّق هو به لأنّه يعدّي الفعل القاصر إلى مفعوله في المعنى الذي لا يتعدّى إليه بمعنى مصدره، فحرف الجرّ ليس بعامل قوي ولكنّه مكمّل للعامل المتعلّق هو به.
ثمّ إنّ علينا أن نتطلّب الداعي إلى إظهار حرف الجرّ في البدل في مواقع ظهوره.
وقد جعل ابن يعيش في «شرح المفصّل» ذلك للتأكيد قال: «لأن الحرف قد يتكرّر لقصد التأكيد».
وهذا غير مقنع لنا لأنّ التأكيد أيضًا لابد من داع يدعو إليه.
فما أظهر فيه حرف الجرّ من هذه الآيات كان مقتضي إظهاره إمّا قصد تصوير الحالة كما في أكثر الآيات، وأمّا دفع اللبس، وذلك في خصوص آية الأعراف لئلاّ يتوهّم السامع أنّ من يتوهّم أنّ «من آمن» من المقول وأنّ «من» استفهام فيظنّ أنّهم يسألون عن تعيين من آمن من القوم، ومعنى التأكيد حاصل على كلّ حال لأنّه ملازم لإعادة الكلمة.
وأمّا ما ليس بعامل فهو الاستفهام وقد التزم ظهور همزة الاستفهام في البدل من اسم استفهام، نحو: أين تنزل أفي الدار أم في الحائط، ومنْ ذا أسعيد أم عَلِي.
وهذا العيد الذي ذكر في هذه الآية غير معروف عند النصارى ولكنّهم ذكروا أنّ عيسى عليه السلام أكل مع الحواريّين على مائدة ليلة عيد الفِصح، وهي الليلة التي يعتقدون أنّه صلب من صباحها.
فلعلّ معنى كونها عيدًا أنّها صيّرت يوم الفصح عيدًا في المسيحية كما كان عيدًا في اليهودية، فيكون ذلك قد صار عيدًا باختلاف الاعتبار وإن كان اليوم واحدًا لأنّ المسيحيين وفّقوا لأعياد اليهود مناسبات أخرى لائقة بالمسيحية إعفاء على آثار اليهودية. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ اللهم رَبَّنَا} الأصل عند سيبويه يا الله، والميمان بدل من «يا».
{رَبَّنَا} نداء ثان، لا يجيز سيبويه غيره، ولا يجوز أن يكون نعتا، لأنه قد أشبه الأصوات من أجل ما لحقه.
{أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً} المائدة الخوان الذي عليه الطعام، قال قُطْرُب: لا تكون المائدة مائدة حتى يكون عليها طعام، فإن لم يكن قيل: خوان، وهي فاعلة من مَادَ عبده إذا أطعمه وأعطاه، فالمائدة تميد ما عليها أي تعطي، ومنه قول رؤبة أنشده الأخفش:
تُهدي رؤوس المترَفين الأنداد ** إلى أمير المؤمنين الممتَاد

أي المستعطَى المسؤول، فالمائدة هي المطعمة والمعطية الآكلين الطعام.
ويسمى الطعام أيضًا مائدة تجوزًا، لأنه يؤكل على المائدة، كقولهم للمطر سماء.
وقال أهل الكوفة: سميت مائدة لحركتها بما عليها، من قولهم: مَادَ الشيء إذا مال وتحرّك، قال الشاعر:
لعلك باكٍ إنْ تَغنّتْ حمامُة ** يَميدُ بها غُصْن من الأيْكِ مائلُ

وقال آخر:
وأقلقني قتلُ الكنانيّ بعده ** فكادَتْ بي الأرضُ الفضاءُ تَميدُ

ومنه قوله تعالى: {وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15].
وقال أبو عبيدة: مائدة فاعلة بمعنى مفعولة، مثل {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [الحاقة: 21 والقارعة: 7] بمعنى مرضية و{مَّاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 7] أي مدفوق.
قوله تعالى: {تَكُونُ لَنَا عِيدًا} {تكون} نعت لمائدة وليس بجواب.
وقرأ الأعمش {تكن} على الجواب، والمعنى: يكون يوم نزولها {عِيدًا لأَوَّلِنَا} أي لأوّل أمتنا وآخرها، فقيل: إن المائدة نزلت عليهم يوم الأحد غدوة وعشية، فلذلك جعلوا الأحد عيدًا.
والعيد واحد الأعياد، وإنما جمع بالياء وأصله الواو للزومها في الواحد، ويقال: للفرق بينه وبين أعواد الخشب، وقد عيَّدوا أي شهدوا العيد، قاله الجوهريّ.
وقيل: أصله من عاد يعود أي رجع فهو عِود بالواو، فقلبت ياء لانكسار ما قبلها، مثل الميزان والميقات والميعاد، فقيل ليوم الفطر والأضحى: عيدًا لأنهما يعودان كل سنة.
وقال الخليل: العيد كل يوم يجمع كأنهم عادوا إليه.
وقال ابن الأنباريّ: سُمّي عيدا للعود في المَرَح والفَرَح، فهو يوم سرور الخلق كلهم، ألا ترى أن المسجونين في ذلك اليوم لا يطالبون ولا يعاقبون، ولا يصاد الوحش ولا الطيور، ولا تنفذ الصبيان إلى المكاتب.
وقيل: سمي عيدا لأن كل إنسان يعود إلى قدر منزلته، ألا ترى إلى اختلاف ملابسهم وهيئاتهم ومآكلهم فمنهم من يضيف ومنهم من يضاف، ومنهم من يرحَم ومنهم من يُرحَم.
وقيل: سمي بذلك لأنه يوم شريف تشبيهًا بالعيد: وهو فحل كريم مشهور عند العرب وينسبون إليه، فيقال: إبل عيدية، قال:
عِيدِيَّة أُرهِنَتْ فيها الدنانِيرُ

وقد تقدّم.
وقرأ زيد بن ثابت {لأولاَنَا وأُخْرَانَا} على الجمع.
قال ابن عباس: يأكل منها آخر الناس كما يأكل منها أوّلهم.
{وَآيَةً مِّنْكَ} يعني دلالة وحجة.
{وارزقنا} أي أعطنا.
{وَأَنتَ خَيْرُ الرازقين} أي خير من أعطى ورزق، لأنك الغنيّ الحميد. اهـ.

.قال الماوردي:

{تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: نتخذ اليوم الذي أنزلت فيه عيدًا نعظمه نحن ومن بعدنا قاله قتادة والسدي.
وقيل: إن المائدة أنزلت عليهم في يوم الأحد غداة وعشية، ولذلك جعلوا الأحد عيدًا.
والثاني: معناه عائدة من الله تعالى علينا، وبرهانًا لنا ولمن بعدنا.
والثالث: يعني نأكل منها جميعًا، أولنا وآخرنا، قاله ابن عباس.
{وَءَايَةً مِّنكَ} يعني علامة الإِعجاز الدالة على توحيدك وقيل التي تدل على صدق أنبيائك.
الشكر على ما أنعمت به علينا من إجابتك، وقيل: أرزقنا ذلك من عندك. اهـ.

.قال الألوسي:

{قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ} لما رأى أن لهم غرضًا صحيحًا في ذلك، وأخرج الترمذي في «نوادر الأصول» وغيره عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام لما رأى أن قد أبوا إلا أن يدعو لهم بها قام فألقى عنه الصوف ولبس الشعر الأسود ثم توضأ واغتسل ودخل مصلاه فصلى ما شاء الله تعالى فلما قضى صلاته قام قائمًا مستقبل القبلة وصف قدميه حتى استويا فألصق الكعب بالكعب وحاذى الأصابع بالأصابع ووضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره وغض بصره وطأطأ رأسه خشوعًا ثم أرسل عينيه بالبكاء فما زالت دموعه تسيل على خديه وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلت الأرض حيال وجهه فلما رأى ذلك دعا الله تعالى فقال: {اللهم رَبَّنَا} ناداه سبحانه وتعالى مرتين على ما قيل مرة بوصف الألوهية الجامعة لجميع الكمالات وأخرى بوصف الربوبية المنبئة عن التربية إظهارًا لغاية التضرع ومبالغة في الاستدعاء وإنما لم يجعل نداء واحدًا بأن يعرب {رَبَّنَا} بدلًا أو صفة لأنهم قالوا: إن لفظ اللهم لا يتبع وفيه خلاف لبعض النحاة.
وحذف حرف النداء في الأول وعوض عنه الميم وكذا في الثاني إلا أن التعويض من خواص الاسم الجليل أي يا الله يا ربنا.
{أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً} أي خوانًا عليه طعام أو سفرة كذلك، وتقديم الظرف على المفعول الصريح لما مر مرارًا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر.
وقوله سبحانه وتعالى: {مّنَ السماء} متعلق إما بانزل أو بمحذوف وقع صفة لمائدة أي كائنة من السماء، والمراد بها إما المحل المعهود وهو المتبادر من اللفظ وإما جهة العلو، ويؤيد الأول ما أخرجه ابن حميد وابن أبي حاتم عن عمار بن ياسر أن المائدة التي نزلت كان عليها من ثمر الجنة وكذا روي عن وهب بن منبه.
ويؤيد الثاني ما روي عن سلمان الفارسي من خبر طويل أن المائدة لما نزلت قال شمعون رأس الحواريين لعيسى عليه الصلاة والسلام يا روح الله وكلمته أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الجنة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون من الآيات وتنتهوا عن تنقير المسائل ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا بسبب هذه الآية فقال شمعون: لا وإله اسرائيل ما أردت بها سواءًا يا ابن الصديقة فقال عيسى عليه الصلاة والسلام.
ليس شيء مما ترون عليها من طعام الجنة ولا من طعام الدنيا إنما هو شيء ابتدعه الله تعالى في الهواء بالقدرة الغالبة القاهرة فقال له كن فكان في أسرع من طرفة عين فكلوا مما سألتم باسم الله واحمدوا عليه ربكم يمدكم منه ويزدكم فإنه بديع قادر شاكر.
وقوله تعالى: {تَكُونُ لَنَا عِيدًا} صفة {مائدة} و{لنا} خبر كان و{عيدًا} حال من الضمير في الظرف أو في {تَكُونُ} على رأي من يجوز إعمالها في الحال، وجوز أن يكون {عيدًا} الخبر و{لنا} حينئذ إما حال من الضمير في {تكون} أو حال من {عِيدًا} لأنه صفة له قدمت عليه، والعيد العائد مشتق من العود ويطلق على الزمان المعهود لعوده في كل عام بالفرح والسرور، وعليه فلابد من تقدير مضاف، والمعنى يكون نزولها لنا عيدًا، ويطلق على نفس السرور العائد وحينئذ لا يحتاج إلى التقدير، وفي الكلام لطافة لا تخفى، وذكر غير واحد أن العيد يقال لكل ما عاد عليك في وقت، ومنه قول الأعشى:
فوا كبدي من لاعج الحب والهوى ** إذا اعتاد قلبي من أميمة عيدها

وهو واوي كما ينبئ عنه الاشتقاق ولكنهم قالوا في جمعه: أعياد وكان القياش أعواد لأن الجموع ترد الأشياء إلى أصولها كراهة الاشتباه كما قال ابن هشام بجمع عود، ونظر ذلك الحريري بقولهم: هو أليط بقلبي منك أي ألصق حبابه فإن أصله الواو لكن قالوا ذلك ليفرق بينه وبين قولهم.
هو ألوط من فلان، ولا يخفى أن هذا مخالف لما ذكره محققو أهل اللغة، وعن الكسائي يقال: لاط الشيء بقلبي يلوط ويليط وهو ألوط وأليط، ثم إنهم إنما لم يعكسوا الأمر في جمع عود وعيد فيقولوا في جمع الأول أعياد وفي جمع الثاني أعواد مع حصول التفرقة أيضًا اعتبارًا على ما قيل للأخف في الأكثر استعمالًا مع رعاية ظاهر المفرد، وقرأ عبد الله: {تكن} بالجزم على جواب الأمر.
{لأوَّلِنَا وَءاخِرِنَا} أي لأهل زماننا ومن يجيء بعدنا.
روي أنه نزلت يوم الأحد فلذلك اتخذه النصارى عيدًا، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن المعنى يأكل منها أول الناس وآخرهم، والجار والمجرور عند بعض بدل من الجار والمجرور أعني {لنا}، وقال أبو البقاء إذا جعل {لنا} خبرًا أو حالًا فهو صفة لعيدًا وإن جعل صفة له كان هو بدلًا من الضمير والمجرور بإعادة الجار، وظاهره أن المبدل منه الضمير لكن أعيد الجار لأن البدل في قوة تكرار العامل، وهو تحكم لأن الظاهر كما أشير إبدال المجموع من المجموع، ثم إن ضمير الغائب يبدل منه وأما ضمير الحاضر فأجازه بعضهم مطلقًا وأجازه آخرون كذلك، وفصل قوم فقالوا إن أفاد توكيدًا واحاطة وشمولًا جاز وإلا امتنع.
واستظهر بعضهم على قول الحبر أن يكون {لنا} خبرًا أي قوتًا أو نافعة لنا.
وقرأ زيد وابن محيصن والجحدري {لأولانا وأخرانا} بتأنيث الأول والآخر باعتبار الأمة والطائفة، وكون المراد بالأولى والأخرى الدار الأولى أي الدنيا والدار الأخرى أي الآخرة مما لا يكاد يصح.
{وَءايَةٌ} عطف على {عيدًا}، وقوله سبحانه وتعالى: {مِنكَ} متعلق بمحذوف وقع صفة له أي آية كائنة منك دالة على كمال قدرتك وصحة نبوتي {وارزقنا} أي الشكر عليها على ما حكي عن الجبائي أو المائدة على ما نقل عن غير واحد والمراد بها حينئذ كما قيل ما على الخوان من الطعام أو الأعم من ذلك وهذه ولعله الأولى {وَأَنتَ خَيْرُ الرازقين} تذييل جار مجرى التعليل أي خير من يرزق لأنه خالق الرزق ومعطيه بلا ملاحظة عوض. اهـ.